جارٍ تحميل التاريخ...

السيرة النبوية – مشهد غزوة بدر الكبرى (2)- ذ. حمو أورامو

السيرة النبوية – مشهد غزوة بدر الكبرى (2)- ذ. حمو أورامو

بسم الله الرحمن الرحيم، السادة الأئمة الكرام؛ السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في هذه الحصة سأتحدث إن شاء الله عن جوانب من غزوة بدر الكبرى؛ غزوة الفرقان؛ التي فرق الله بها بين الحق والباطل، وهي غنية بالدلالة والعبر، وسأركز اليوم كما جرت العادة على أمرين اثنين: على الطاعة في المنشط والمكره وعلى علاقة الأسباب بالمسببات؛ ممهدا بثلاثة مشاهد: التوطئة؛ الشورى؛ اللقاء.

أما التوطئة؛ فأقول كان الصحابة رضي الله عنهم يأتون رسول الله ﷺ من بين مضروب ومشجوج، فيتظلمون إليه، فيقول لهم ﷺ: «اصبروا فإني لم أومر بالقتال». فلما اضطروا إلى الهجرة وأذن لهم رسول الله ﷺ؛ هاجروا كما تقدم تاركين أموالهم؛ إلا ما نجوا به مما لم تجردهم منه قريش، فآواهم الأنصار، وكانت قريش تلاحقهم وتتوعد كل من يساعدهم، أو يساندهم، فصبروا حتى أذن لهم الله تعالى في رد الظلم والعدوان بقوله تعالى: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ﴿ا۟ذِنَ لِلذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْۖ وَإِنَّ اَ۬للَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌۖ﴾ [الحج: 37].

فنزلت هذه الآية ترخص لهم في الدفاع عن النفس، وكف الظلم والأذى، فكانت سبب استنفار الرسول ﷺ للصحابة لاعتراض عير قريش؛ إذ ليس من الطبعي أن ينزل المهاجرون على الأنصار؛ وأن يكونوا عالة عليهم، وإن آووهم وآثروهم على أنفسهم، والحالة هذه أن أموالهم التي تركوها أو جردوا منها يستقوي بها عليهم غيرهم، ويتمتع بها، ويستثمرها ضدهم، ويمر بجانبهم في تجارته.

 ومن وظيفة القائد فأحرى الرسول أن يرد الظلم عن المظلومين إذا رأى المصلحة في ذلك، وأن الفرصة متاحة، وأن يأمر بالصبر إذا لم تكن لهم القدرة؛ من باب ارتكاب أهون الضررين وأخف المفسدتين، ومن واجب الرعية السمع والطاعة؛ في المنشط والمكره، لأن القائد يعلم ما لا يعلمه غيره، لهذا لما أذن الله لرسوله اتضحت المصلحة إذا توفرت شروطها، لأنه وعده الله بالنصر سواء لقي العير أو لقي النفير.

وأما الشورى فإن الرسول ﷺ أخذ يستشير الصحابة خصوصا الأنصار؛ بعدما تبين أن العير قد نجت، وأن المواجهة ستكون مع النفير المستعد، والصحابة الذين لم يستعدوا لحكمة أرادها الله سبحانه؛ لإظهار مجموعة من خوارق العادة من المعجزات.

 وركز على  الأنصار الذين لم تشمل بيعتهم ما يقدمون عليه، فقال: أشيروا علي أيها القوم، فأخذ يكررها حتى أجابوه لما فهموا أنه يعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج، استشارهم ليعلم ما عندهم، فقال له سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.

وتكلم المقداد: وقال له كلاما حسنا، فاتضح أن شروط النصر توفرت باتحاد الكلمة، لأن الاتحاد أصل كل قوة، والنزاع أصل كل فشل، فلما تبين اتحاد الصحابة رضي الله عنهم، وعبروا عن طاعتهم المطلقة لرسول الله فيما تشمله البيعة، وفي غيره؛ أشرق وجه رسول الله ﷺ، وسر بما سمع من أصحابه، وقال: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم».

وأما اللقاء؛ فقال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت فلما رآها رسول الله ﷺ تصوب من العقنقل، – وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي – قال اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة.

وقال زياد عن ابن إسحاق: ثم إن رسول ﷺ أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال: «شاهت الوجوه»؛ ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال: «شدوا» فكانت الهزيمة.

ما يستفاد مما تقدم أركز فيه على أمرين كما قلت:

الأمر الأول: أن الطاعة واجبة في المنشط والمكره، وأن تفويض الأمر للقائد، وأن الاتحاد حول كلمته سبب النصر؛ لأن طاعته امتثال لأمر الله؛ قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ وَأُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنكُمْۖ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِے شَےْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اَ۬للَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُومِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِۖ ذَٰلِكَ خَيْرٞ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاًۖ﴾ [النساء: 58]، فهو المرجع حتى ولو وقع النزاع؛ فما رجحه هو المرجح، وفي هذا المعنى يقول الفقهاء: “حكم الحاكم يرفع الخلاف” فطاعة الأمير طاعة رسول الله، وطاعة رسول الله، طاعة الله. عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني»([1])، فأعلمهم -ﷺ- بأن طاعتهم مربوطة بطاعته؛ ليطيعوا من أمره عليه الصلاة والسلام عليهم، ولا يستعصوا عليه لئلا تتفرق الكلمة([2]).

فأمر الإمام يرفع الخلاف: أي يرفع الخلاف في كل القضايا المتشابهة، مهما اختلف الزمان والمكان في دار الإسلام، وطاعته واجبة حفاظا على جمع الكلمة في المنشط والمكره، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله»([3])، وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا»([4]).

الأمر الثاني: علاقة السبب بالمسبب الذي يعد من صميم العقيدة الأشعرية.

لم تكن الكفتان متوازنتين من حيث ميزان القوة الظاهر، لا من حيث الاستعداد، ولا من حيث العدد، ولكن الله يفعل في ملكه ما يشاء، وله أن يمد من يشاء، وأن يقطع على من يشاء المدد. فإذا جرت سنته على أن النتائج تكون عند الأسباب، فإنها قد تتدخل المعجزات والكرمات والمعونات؛ لإظهار استغناء الله عن الأسباب؛ فيهيء من الصعب المراد، ويهلك أهل العناد، ولله در القائل:

إذا كان عون الله للمرء ناصرا                  تهيأ له من كل صعب مرادهُ

وإن لم يكن عون من الله للفتى         فأكثر ما يجني عليه اجتهادهُ

وهذا ما توكده هذه الغزوة، فبعد ما انتهى القتال دخل نوع من الزهو النفوس، فنسوا العناية والرعاية، فأخذوا يفتخرون؛ أنا قتلت؛ أنا أسرت؛ فبين الله لهم أنه الفاعل المختار لكل شيء، وأن النتائج عند الأسباب لا بها؛ حتى ولو تكافأت، وأنزل قوله في ذلك: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْۖ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ قَتَلَهُمْۖ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ رَم۪ىٰۖ﴾ [الأنفال: 17].

 فثبت أن الأفعال كلها خيرها وشرها؛ صادرة عن خلقه وإحداثه إياها؛ ولأنه قال: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْۖ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ قَتَلَهُمْۖ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ رَم۪ىٰۖ﴾ [الأنفال: 17]. وقال: ﴿أَفَرَٰٓيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ءَآنتُمْ تَزْرَعُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ اُ۬لزَّٰرِعُونَۖ﴾ [الواقعة: 66-67]، فسلب عنهم فعل القتل والرمي والزرع؛ مع مباشرتهم إياه، وأثبت فعلها لنفسه ليدل بذلك على أن المعنى المؤثر في وجودها بعد عدمها هو إيجاده وخلقه، وإنما وجد من عباده مباشرة تلك الأفعال بقدرة حادثة، أحدثها خالقنا عز وجل على ما أراد، فهي من الله سبحانه خلق على معنى أنه هو الذي اخترعها بقدرته القديمة، وهي من عباده كسب على معنى تعلق قدرة حادثة بمباشرتهم التي أكسبهم.

ووقوع هذه الأفعال أو بعضها على وجوه تخالف قصد مكتسبها؛ يدل على موقع أوقعها على ما أراد غير مكتسبها؛ وهو الله ربنا الذي خلقنا، وخلق أفعالنا لا شريك له في شيء من خلقه، تبارك الله رب العالمين.

قال الإمام الرازي رحمه الله: ثم قال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ رَم۪ىٰۖ﴾؛ يعني أن القبضة من الحصباء التي رميتها، فأنت ما رميتها في الحقيقة، لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر، ولكن الله رماها حيث نفذ أجزاء ذلك التراب، وأوصلها إلى عيونهم، فصورة الرمية صدرت من الرسول عليه الصلاة والسلام، وأثرها إنما صدر من الله، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات.

المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وجه الاستدلال أنه تعالى قال: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْۖ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ قَتَلَهُمْۖ﴾؛ ومن المعلوم أنهم جرحوا، فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله. وأيضا قوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ أثبت كونه عليه السلام راميا، ونفى عنه كونه راميا، فوجب حمله على أنه رماه كسبا وما رماه خلقا([5]).

وفي كتاب الاعتقاد للبيهقي وكان الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان يعبر عن هذا بعبارة حسنة، فيقول فعل القادر القديم خلق، وفعل القادر المحدث كسب، فتعالى القديم عن الكسب، وجل وصغر المحدث عن الخلق وذل([6]).  وخلاصة القول تفويض النتائج والتأثير لله، واتخاذ الأسباب المطلوبة من العباد، وفي الإمعان في اتخاذ السبب؛ قال رسول الله ﷺ: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل»([7]). فاللهم وفقنا لما تحبه وترضاه آمين والحمد لله رب العالمين.

([1]) البخاري ومسلم

([2]) إرشاد الساري 216/10.

([3]) صحيح البخاري 77/9.

([4]) سنن أبي داود 16/7.

([5]) مفاتيح الغيب 466/15.

([6]) الاعتقاد للبيهقي 144.

([7]) مسند الإمام أحمد 191/3.


تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)